Tuesday, April 28, 2009
خبز محمد شكري
عدت الى قراءة 'الخبز الحافي'. فالعودة الى قراءة كتاب تشبه زيارة صديق قديم. زيارة واحدة لا تكفي، كما ان قراءة واحدة لا تكفي. فالكتاب حقل من التداعيات والاحتمالات. واعادة القراءة تسمح لنا بأن نكتشف مستويات جديدة للنص، الذي يحمل احتمالات تأويل متعددة.
دخلت هذه السيرة الذاتية التي كتبها الروائي المغربي محمد شكري الأدب العربي المعاصر في شكل موارب. صدرت بالانكليزية في البداية بترجمة بول بولز، قبل ان تصدر بالفرنسية بترجمة الطاهر بن جلون وبالعربية. وعلى الرغم من ان الكتاب كتب بلغة الضاد، فان حكاية نشره توازي في اهميتها حكاية كتابته. اذ اضطر المؤلف الى نشر الكتاب العربي على نفقته الخاصة، قبل ان تلتفت اليه دور النشر العربية.
صار محمد شكري كاتبا باللغات الاجنبية قبل ان يصير كاتبا بلغته الأم! ولم يكن معروفا الا في الاوساط المغربية، التي جهدت كثيرا كي تعرف الادباء العرب الى زميلهم المغربي الذي قدم في سيرته الذاتية مقتربا جديدا للكتابة.
كان شكري ابن الريف المغربي المهاجر بين طنجة وتطوان ووهران. ريف الفقر والجوع والعنف، لكنه كان ايضا ابن طنجة وكاتبها. اخيرا عثرت المدينة الكوزموبوليتية المغربية على كاتبها الأمي. كان شكري اميا لا يعرف القراءة والكتابة، لكنه اكتشف الحرف في السجن، واحترف الكتابة كجزء من تشرده الطويل.
انها اول سيرة تشردية باللغة العربية، صحيح ان الكاتب المصري باللغة الفرنسية البير قصيري كتب عن المتشردين، لكن شكري ذهب الى النقطة الأبعد، وصنع من التشرد مقتربا كاملا للحياة، لا نجد ما يوازيه في الأدب العربي.
يكمن ابداع شكري في قدرته على تحويل التشرد الى نص، وفي رؤيته المضمرة للعلاقة بين الكتابة والحياة. فهو لا يحيا ليكتب، مثلما قال غابرييل غارسيا ماركيز، ولا يكتب ليحيا، مثلما علمتنا شهرزاد. بل يجعل من الحياة والكتابة خطين متوازيين، يحيا ليحيا ويكتب ليكتب، ولا تشبه العلاقة بين الكتابة والحياة، سوى العلاقة بين الباطن والظاهر. الباطن هو الحياة، والظاهر هو الكتابة. لكن الحياة اكثر غنى وتنوعا ووحشية من قدرة الكتابة على التعبير، الحياة تخترع لغتها، وما على الكتابة سوى اللحاق بها ومحاولة القبض على اجزاء منها.
وهذا ما فعله شكري في سيرته الناقصة، والتي بقيت كذلك حتى بعد اصداره جزءا ثانيا من 'الخبز الحافي'، بعنوان 'الشطّار'.
المدهش في كتاب شكري هو قدرته على اللعب على اكثر من مستوى في الوقت نفسه. بطل الحكاية الطفل القادم من الريف البربري، يحاول ان يعيش. تعقيدات الحياة تأتي من غريزة البقاء نفسها. غريزة البقاء هي حضيض المشاعر، الأب الذي يقتل ابنه ويضرب زوجته، ويمارس سلطته الوحشية على الابن الباقي. والام الخاضعة بلا حول، والعالم الحقيقي الشرس، الذي لا يترك لبطل الحكاية اي هامش للطفولة او البراءة او العواطف.
من قعر هذا العالم الموحش والمتوحش تأتي الكتابة، فالنص الذي كتبه شكري لا يشبه السير الذاتية في شيء. في العادة يكون كاتب السيرة الذاتية قد وصل الى حيز من الشهرة، لذا تقوم سيرته باعادة كتابة حياته، على ضوء موقعه الحالي. فاذا كان كاتب السيرة كاتبا، فان مهمة السيرة القيام بتأويل حياة كاتبها في وصفها مسيرة متصلة نحو الكتابة. اما هنا فكاتب السيرة لا شيء. عندما كتب شكري كتابه الأول لم يكن شيئا. كان مجرد متبطل في رفقة متبطلين وكتاب يعيشون في هامش طنجة. هذا سر علاقته بجان جينيه التي صارت كتابا في ما بعد. بلى في نهاية سيرته يشير شكري الى اكتشاف الحرف وقراره ان يتعلم القراءة والكتابة، بعد مغامرة مشاركته في التهريب. بالطبع لم يكن هذا الكتاب ممكنا لو لم يتعلم شكري الكتابة، لكنه عكس الكتاب الآخرين كتب سيرته كي يبدأ بها حياته الادبية.
لذا تصير السيرة هنا وكأنها رواية، اي ان دخول عالم القاع، يصير شكلا لتهجئة جديدة لمعنى الكتابة. كتابة عارية، وحشية، غريزية، كتابة تأخذ شكلها من تفاصيل الحياة، تلغي المحظورات، وتقول الأشياء بوضوح حسيّ، ولغة مسنونة.
لم يسبق للمتشردين في مدن العالم العربي ان دخلوا الى النص الأدبي. شكري لا يكتب عنهم، انه واحد منهم، يدخل العالم الأدبي بتجربته الشخصية، ويأخذنا الى الخبز المبلل بالأسى وغريزة البقاء، والى حياة مراهق متشرد في العالم السفلي. حيث تمتزج الرغبات بالعنف والدعارة، وحيث لا شيء سوى محاولة التحايل على الحياة بفتات الحياة.
كتاب مفتوح على الدنيا، ومفتوح على الأسى والخيبة.
كيف كتب شكري كتابه؟
هل جاءت الكتابة بتحريض من آخرين؟ ام كانت طلقة في العتمة؟ وماذا يهم؟ المهم اننا امام نص قابل لأن يفتح ابواب نصوص جديدة، بقلم كاتبه او بأقلام اخرى.
غير ان حكاية هذا الكتاب تحمل دلالة على واقع الثقافة العربية. هل صحيح ان الاسباب التي حالت دون نشر الكتاب زالت، او لم يعد احد يجرؤ على الاشارة اليها، بسبب المكانة الأدبية الرفيعة التي احتلها 'الخبز الحافي' في العالم؟ وهل يشير ذلك الى عدم قدرة الثقافة العربية على ان تكون مرجعا اساسيا لنفسها؟ والدليل على ذلك هو الأزمة التي اثارها تدريس هذا الكتاب في الجامعة الامريكية في القاهرة، منذ اعوام قليلة. اذ قام حراس القيم البائدة بمحاولة منع تدريس الكتاب تحت حجة الدفاع عن الاخلاق.
الدفاع عن الاخلاق لا يكون بحجب الحقيقة، بل بحل المشكلة، وهذا ما اشار اليه في شكل صارخ فيلم تهاني راشد عن بنات الشوارع في القاهرة اليوم.
اطلق محمد شكري صرخة الحرية والحياة في كتابه، وقدم احدى روائع الادب العربي المعاصر، وفتح الباب امام الهامش بأن يحتل المتن.
وهذا ما تحتاجه الثقافة كي تبقى حية وفاعلة ومبدعة
الياس خوري
Alquds.co.uk